رحلة التخصص وبناء الخبرة المهنية

15 ديسمبر 2024
فاطمة آل بودي
رحلة التخصص وبناء الخبرة المهنية



أول سؤال يتبادر إلى ذهني حين أعود بذاكرتي للخلف: هل اختياري لتخصصي الجامعي كان وفقًا لما أتقن وأحب؟ هل كانت قراراتي مبنية على فهم عميق لذاتي واهتماماتي؟

أجزم أن اختياراتنا لمساراتنا في وقت مضى لم تكن كافية بالقدر الذي يجعلنا موقنين أن هذا المجال هو الأنسب والأكمل والأكفأ. بيد أن الحياة في تغير مستمر، وتصاعد التغيرات يجبرنا على أن نتكيف مع هذا التغيير لنواكب القوة الغالبة للمجالات الأكثر رواجًا وأهمية. لذا كان لزامًا علينا ألا نقف عند مفترق الطرق ونترقب ممارسة المهنة المتطابقة مع تخصصنا الجامعي، فالطريق طويل، والحياة في تسارع مذهل! كل موجة نركبها تجعل من الرحلة أكثر إثارة وعمقًا, تساؤلات كثيرة تدور حول أن تكون رحلتك المهنية تسير في مسار تخصصي واحد أو أن تمتد وتتفرع بحسب تطلعاتك والفرص التي تتاح أمامك؟ اختلفت الآراء والطريق واحد: أن تصنع أفضل نسخة من نفسك، وتبني خبراتك وفق مسارات ذات ارتباط، وأن تجعل من رحلتك المهنية ثرية لتتقن من خلالها فن التسويق لنفسك وفق أهدافك التي تحققها في كل محطة تحط رحالك بها. اجعل لك بصمة مختلفة عن من سبقوك. ادرس علاقاتك، وافهم أن في كل فرصة متاحة هناك شيئًا ما ينتظرك لتقفز لفرصة أخرى لم تخطر يومًا على بالك.


قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].

هذه الآية هي منهج حياة؛ بقدر ما تسعى لخير الدنيا والآخرة ستجده! يمر كثير من الخريجين في بداية مسيرتهم المهنية بكمّ من التحديات والصعوبات في تحديد مساراتهم.

قد تكون الفرص التي تتاح في بداية الطريق لا تتوافق مع أهدافك ومسارك التخصصي، لكن لأن الحياة لا تتوقف ولأن التجربة خير برهان، كان لا بد أن نجرب ونطرق كل الأبواب لنفهم ما يمكننا خوضه في هذه الرحلة.


أتذكر جيدًا حين كنت أبحث عن وظيفة بعد التخرج. أتذكر أني لم أترك مكانًا إلا وطرقت بابه، ولا موقعًا أو بريدًا إلكترونيًا أو صديقًا أو زميلًا إلا وأرسلت إليه سيرتي التي لم تُبنَ بعد. لكن رغم كل هذه المحاولات، لم يأتني يومًا اتصال أو مقابلة وظيفية من تلك الجهات، بل كانت تنهال عليّ الفرص من جهات أخرى لم أسعَ لها أو أسمع بها يومًا.

وها أنا اليوم، بعد خبرة تجاوزت الـ15 عامًا، أقولها وأكررها: جميع محطات العمل التي خضتها في مسيرتي كانت استقطابًا، وليست اختيارًا مني أو محاولة سابقة للالتحاق. غريبة جدًا هذه المعادلة ومغرية جدًا! فاسعَ وحاول وفتش، ودع الرزق يسير إليك كما كتبه لك رب العالمين. المهم ألا تقف.

“التجارب التي لا نحبها هي ما تجعلنا أكثر نضجًا.”


قبل أسبوع كنت أناقش صديقة حول جدوى أن تكون مسيرتك المهنية زاخرة بالتنوع. بدأت مسيرتي المهنية في تخصصي الجامعي “علم الاجتماع”، التخصص الذي اخترته وأنا على يقين أنه أنسب تخصص مُتاح لي آنذاك، بالرغم أنني كنت حينها أرقب افتتاح تخصص جديد في الجامعة: “التعليم الخاص”. ولكن يشاء الله أن يتأخر افتتاحه لثلاث سنوات، فانخرطت في تخصصي وصرفت النظر عنه. وأحمد الله أنه لم يكن مساري اليوم، لأن سماتي الشخصية لا تتوافق مع هذا المجال.

لكن نظرتي حينها كانت قاصرة عن هذا الفهم. وبتوفيق من الله، كان علم الاجتماع يشبه فاطمة أكثر، العلم الذي له امتداد لمجالات خضتها مستقبلًا دون ترتيب مني أو تخطيط!


“لن ترتدي ثوب المعالي جاهزًا

حتى يُحاك من التجارب في أناة!”


عملت في الإرشاد الاجتماعي والأنشطة في إحدى المدارس في بداية الطريق، وانتقلت بعدها إلى الإدارة وشؤون الطلبة في كلية صحية، التي حققت أحد أمنياتي في أن أكون أمينة مكتبة، المجال الثقافي الذي شغفت به. انتقلت بعدها إلى قطاع جديد كنت أتطوع فيه، لكن هذه المرة خضت غمار التجربة مع تأسيس جمعية أهلية في القطاع الثالث وفي مجال ثقافي وتخصصي وهو القراءة. الأمتع والأكثر إثارة بالنسبة لي في هذه التجربة هو أن أكون مديرة لقسم العلاقات العامة والإعلام، المهارة التي أتقنها جيدًا خارج أروقة الأعمال، لتأتيني على طبق من ذهب في مجال قرائي جديد وبكر في المنطقة. كانت التجربة ثرية جدًا ومركزية بالنسبة لخبراتي، حيث فتحت لي آفاق العمل الإعلامي بشكل احترافي.

انتقلت بعدها حين تم استقطابي كمستشار إعلامي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والمتمثل بأكاديمية الفوزان، التي جعلت من التجربة الإعلامية أكثر نضجًا وثقلًا.

وذلك بالاستفادة من الشراكات الكبرى مع الوزارات والمؤسسات الإعلامية التي ترعى المبادرات والمنتديات في القطاع غير الربحي. خضت فيها إدارة مشاريع إعلامية لها ثقل في الخدمة المجتمعية التي لها امتداد عميق في نفسي وتخصصي. ولا تزال الفرص تتقافز أمامي لأجعل من هذه التجارب بيت خبرة ينمو يومًا بعد يوم، ليكون مكملًا ومجودًا لما مررت به.


“بقدر ما تلقى ترقى، وبقدر ما تُواجه تُصقل، وبقدر ما تشرب من كؤوس التجارب في الحياة وما تجدهُ في دروبها ومحطّاتها وحكاياتها ومختلف شخصيات البشر فيها؛ تُصنع أيها الإنسان، وتُبنى وتزداد معرفة وخبرة.”

أخيرًا، لا تجعل من تخصصك قيدًا يمنعك من التجربة. فمن خلال الرحلة ستكتشف ذاتك وتفهم احتياجاتك. فالتجربة هي حقلك الخصب لتبني خبرتك المهنية وتصقلها.


أسعد بتقديم خدمة الاستشارة في عدة مجالات عبر صفحتي الرئيسة في خانة خدمات فاطمة. شكرًا لكم.