لطالما كانت المبادرات الثقافية هاجسًا يتغنى به كل من حمل راية الفكر وتصدير المعرفة، فهي غاية كل مؤثر وقائد يسعى أن يحدث فرقًا في مجتمعه وبيئته ,فتصاعد الشأن الثقافي اليوم بعد رؤية 2030 جعل للمبادرات دور محوري في بناء القيم وتعزيز الهوية الوطنية ورفع جودة الحياة, حيث أنها تساهم في رفع مستوى الوعي الثقافي والاجتماعي الذي يدعم التنمية الفكرية والاقتصادية.
عن دور الثقافة والمبادرات الثقافية يقول الكاتب والمفكر المصري طه حسين "أن الثقافة هي أساس النهضة وهي الوسيلة التي تجعل الأمم حية وفعّالة فكل جهد ثقافي يُبذل هو خطوة نحو مجتمع أكثر وعيًا وتقدمًا.”
يعكس هذا الاقتباس إيمان طه حسين بأهمية الثقافة كمحرك أساسي للتطور والنهضة المجتمعية.
أحاول أن أتذكر متى بدأت أهتم وكيف نمى هذا الشعور يومًا بعد يوم وأصبح واقعًا اعيشه وأسعى له، فالتجارب هي زاد الإنسان في تحصيل المعرفة وبناء الخبرات، انضممت لعشرات النوادي الثقافية والقرائية على مدى 18 سنة، كما شاركت وأدرت عدة مبادرات ثقافية وقرائية، كونت فرقًا تطوعية وعملت في الكثير من الجهات، كلها كانت في رصيد هذا البُنيان , تعددت الأسباب والحلم واحد ,أتذكر أول نادي قرائي انتميت له بعد تخرجي من الجامعة ,وكيف كان يعزز فينا الكثير من القيم والمبادئ التي جعلت من رحلتنا أكثر نضجًا و وعيًا، لك أن تتخيل أنه بقي صامدًا إلى هذا اليوم ,رغم أن المنافسين كُثر والحياة تشكلت وتلونت إلا أنه له رواده وشعبيته ومكانته, كلما رأيت اعلانًا له ابتسمت وقلت في نفسي، برافو ! دعاني هذا الأمر للبحث عن أهم العوامل التي تساهم في عدم استدامة المبادرات وتجعلها تتذبذب ما بين التوقف والاستمرارية وهي كالتالي :
- الأولوية ,وعدم التفرغ الكامل للمبادرة
- الجدية , وأخذ التجربة على محمل الصدفة
- الفريق التنفيذي ,وإيمانه بالمبادرة وانتمائه
- كثرة المنافسين ,والمحاربة من أجل البقاء
- خطة وهمية , وعدم وجود وجدوى
- الثبات , وعدم التجديد والمواكبة
- المكان ,وأزمة التنقل بين المواقع والمقاهي
- الموارد المالية , ضعف الدعم وعدم استدامة الموارد
- الاختلاف ,وعدم اتفاق الفريق على رؤية المبادرة
- التنافسية ,وانعدام العمل بروح الفريق
- وجود سلطة عليا, حين تكون المبادرة تحت مظلة جهة ما وتتعطل القرارات
لذا حين تفكر في إنشاء مبادرة قرائية على سبيل المثال ,كن مؤمنًا بها, امنحها وقتًا خاصًا , خطط جيدًا قبل أن تبدأ , كًن مرنًا , واجعل فريقك سندًا لك , كًل المبادرات تمر بمراحل صعود ونزول , الأهم أن لا تتوقف مهما كانت الظروف , فتوقفك يعني نهاية الطريق, لا أنسى حين اقترب الحلم يومًا وعملت على النادي القرائي الذي كنت أحلم به ,تحت مظلة لها وزن وسمعة, وإمكانات ومكان مهيئ وجمهور واسع ,وفريق جاد وفريد، اكتملت الصورة تماًمًا وكان مجلسًا ثقافيًا استثنائيًا, مرت السنة الأولى بنجاح وببصمة لا تتكرر, وفي اللحظة التي اعتقدت أني كنت أقترب لإكمال هذه المسيرة , انتهى الأمر بلا أي سبب، فقط كان يجب أن بتوقف النادي لأسباب لا يد لنا بها، ولأن التوقف يعني النهاية, انتهى كل شيء , لذا لا تجعل من التحديات عقبة ,حاول , واستمر بأقل الإمكانات, ربما مرت من أمامك الآن عدة تجارب تعي تمامًا أن توقفها كان نهاية لها, حاول واستمر لا تستسلم.
لَا تَقْنَطَنَّ من النَّجَاحِ لِعَثْرَةٍ
ما لا يُنَالُ الْيَومَ يُدْرَكُ في غَدِ
- إيليا ابو ماضي
ولأن الصمود علامة بارزة للاستدامة ولأن الاستمرار سمة يجب أن تتحلى بها أي مبادرة ثقافية, إليك بعض من التوصيات التي أعتقد من خلال تجربتي أنها تساهم في ديمومة مبادرتك وتجعلها أكثر صمودًا وهي:
- وضوح الرؤية
- خطة مبنية على خبرة
- المرور بتجارب عديدة من عدة جوانب كقائد وكعضو وكمستمع.
- الجدية في البدايات وما بعدها
- اجعل لناديك قيمة تنافسية
- سوق لنفسك ولناديك بتوازن
- جرب أن تتواجد في الأماكن ذات الصلة
- كون شراكات ثقافية تدعم المبادرة
- كن صبورًا
يذكر أ. ساجد العبدلي وهو كاتب وطبيب مهتم بنشر ثقافة القراءة , "أن النوادي القرائية ليست مجرد تجمعات لقراءة الكتب ,بل هي منصات لبناء العقول, ومجتمعات صغيرة تُعيد للكتاب مكانته, و للأفكار قيمتها في حياة الإنسان "
واقع اليوم مختلف عن الأمس ,وبالأخص لمن خاض معارك سابقة في تأسيس نادي أو البدء في مبادرة نوعية, حيث أن استدامة المبادرات شيء لا يمكن أن يستهان به ,في الوقت الذي تجد أن النادي مر بمراحل عديدة وتجاوز عدة تحديات , بنى اسم ومكانة وأصبح المورد المالي متوازن إلى الحد الذي يجعل من مخاطرك أقل ,ورؤيتك المستقبلية للاستدامة واضحة , استشر أصحاب المبادرات الناجحة , اجلس معهم , افهم وادرس حالة المبادرة أو النادي , ومن ثم فكر بجدية هذه الخطوة سواء كانت ربحية أو غير ربحية , فإن كنت متوجهًا لأن تدخل في القطاع الثالث , فحول مبادرتك لجمعية أهلية , أما إن كنت تسعى لأن تكون مبادرتك هي مشروعك التجاري القائم , فالمؤسسة خيار مناسب و استثمار حقيقي لها.
إن بناء الثقافة وعملها ضروري لكل حياة اجتماعية, ولهذا تندرج الثقافة في نسيج النظام الاجتماعي, فالإنسان ابن عصره وابن مجتمعه, والعلاقة ما بين الثقافة والفرد علاقة متشعبة, فالثقافة تؤثر على شخصية الإنسان , وكذلك الإنسان يؤثر في ثقافة مجتمعة, ويعمل على التغيير الاجتماعي, هذا ما ذكرته أ. رند نصّار في كتابها " الثقافة العربية " فمن أهم وظائف الثقافة الاجتماعية :
- وسيلة للتماسك الاجتماعي
- توفر للإنسان وسائل إشباع حاجاته البيولوجية والاجتماعية
- تقدم لأعضائها الوسائل المختلفة التي تهيء لهم التفاعل داخل الجماعة.
- تخلق حاجات متعددة للفرد, وتمده بوسائل إشباعها.
- تمد الفرد بمجموعة من القوانين والنظم التي تتيح التعاون الذي ينتج عنه التكيف.
- تقدم للفرد تفسيرات تقليدية.
- تمد الأفراد بالوسيلة للتنبؤ بجزء كبير من السلوكيات
- تقدم للفرد مثيرات ثقافية يستجيب لها في العادة
ختامًا نجد أن أبرز المبادرات الثقافية نضجًا اليوم هي التي جعلت من اسمها ملاذًا لتحقيق حاجات الفرد الفكرية والنفسية والاجتماعية ,حيث أن ركائز المرء تبنى على ما استقر في نفسه وسكن ,لذا اجعل من مبادرتك ارتباط روحي وتنموي يشعر فيه الفرد بانتماء يرفع من مستوى فكره ومكانته , اجعل الأثر سمة يتسابق على سردها جمهورك ويسمو بها ,فكل عشرة أشخاص من 100 ينتمون ويثقون ,هم زاد لمرحلة مقبلة لعمر مبادرتك، فاسع لأن تحدث هذ الفرق.
أسعد بتقديم خدمة الاستشارة في مجال المبادرات الثقافية والقرائية ,عبر صفحتي الرئيسية في خانة خدمات فاطمة ,شكرًا لكم.